بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لم قدم السمع في الآية على البصر ؟
أيها الأخوة المؤمنون, إن الذي يؤكد لك أن هذا القرآن من عند الله، هو أن هناك تطابقاً عجيباً، وأبدياً، وسرمدياً، بين ما جاء في القرآن، وبين ما جاء في معطيات العلم، فمن آيات الله الدالة على عظمته، ومن تطابق القرآن مع خلق الإنسان, قوله سبحانه وتعالى :
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾
[سورة الإنسان الآية: 2]
في كلام الله، دقةٌ بالغةٌ في الصياغة، ما دام سميعاً بصيراً، لِمَ قدَّم السمع على البصر؟, قال تعالى:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾
[سورة الأنعام الآية: 46]
هناك حكمتان، قال بعض العلماء: السمع أخطر لحياة الإنسان من البصر، لأن الإنسان بالسمع، يتلقَّى الأصوات من الجهات الست؛ عن يمينه، وعن شماله، ومن أمامه، ومن ورائه، ومن فوقه، ومن تحته، في الظلام والنور، في الليل والنهار، على الرغم من الحواجز الكتيمة يصل السمع إلى أذنه، فكأن السمع يغطي البيت كله، إن كنت نائماً تسمع حركةً في غرفة الضيوف تنتقل إليها، أما عينك لا تريك إلا أطراف غرفة النوم، إذا كنت تقود سيارةً، لا ترى إلا الذي أمامك، أما إذا كان هناك خللٌ في المحرك، أو خللٌ في العجلات، يصل الصوت إلى أذنك، فتقف في الوقت المناسب، هذا بعض توجيهات العلماء، في أن السمع أخطر للإنسان من البصر.
لم اختير السمع وحده في هذه الآية, وما هي وظيفتا السمع والبصر ؟
أيها الأخوة, قال تعالى:
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
[سورة الملك الآية: 10]
لماذا اختار الله سبحانه وتعالى السمع وحده؟ لأنه من كان أصماً، كان أبكماً، هذه حقيقة، الذي لا يسمع، لا ينطق، والذي لا يسمع ولا ينطق متخلفٌ عقلياً، يصنف مع المعوقين عقلياً مع البله، كم من الذين فقدوا بصرهم، كانوا قمةً في العلم والأدب، كانوا أعلاماً؟ ولكن الذي لا يسمع لا ينطق ولا يفهم, قال تعالى:
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
[سورة الملك الآية: 10]
هذه بعض التوجيهات، مع أن دقة خلق السمع، كدقة خلق البصر، لقوله تعالى:
﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾
[سورة الملك الآية: 3]
تنتج بعض الشركات بضاعةً من الدرجة الثانية، يقال لها: بضاعةٌ تجارية، وقد تنتج بضاعةً من الدرجة الأولى، هذه لها أسعار خاصة، لكن صنع الله سبحانه وتعالى لا تفاوت فيه، كله متقنٌ، كله متقنٌ إلى درجةٍ مطلقة، لكن للسمع وظائف، وللبصر وظائف، بالسمع؛ تسمع الحق، وتعقل الحقائق، وبالبصر؛ تشاهد الجماليات، تشاهد الأشياء، تشاهد أشكالها، ألوانها، حجومها، صفاتها، لكنك بالسمع تدرك حقائقها .
في أي شهر يبصر الجنين , وفي أي شهر يسمع ؟
اكتشف العلماء أن الجنين في بطن أمه, في اليوم الثاني والعشرين، من تلقيح البويضة، تتوضَّح أماكن السمع والبصر، ولكن الطفل لا يرى إلا بعد الشهر الثالث منذ الولادة، وإلى الشهر الثالث لا يتأثر إلا بالضوء فقط، ولكن لا يرى الشيء فيسعى إليه إلا بعد الشهر الثالث، ولا يرى الأشياء ملونةً إلا بعد الشهر الرابع من ولادته، ولكنه في الأسبوع السادس والعشرين من الحياة الجنينية، أي في الشهر السادس والنصف، وهو في الرحم، يستمع إلى الأصوات، وهو في بطن أمه، وهو في الرحم، يسمع دقات قلب الأم، ويسمع حفيف المشيمة، ويسمع قرقرة الأمعاء، وقد أجرى بعض العلماء تجارب, سجلوا أصوات ضربات القلب، وحفيف المشيمة، وقرقرات الأمعاء ، وأسمعوها للطفل بعد الولادة، كان يبكي فسكت لمجرد سماعها .
ما هي الآية التي استثناها العلماء في تقديم البصر على السمع , ولماذا ؟
هذا الذي ذكره العلماء، من أن الله قدم السمع على البصر في سبعة عشر آيةً في كتاب الله تقديم أهميةٍ، وتقديم سبقٍ في الخلق، إلا في آية واحدة، قال الله سبحانه وتعالى:
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾
[سورة السجدة الآية: 12]
قال العلماء: لأن سرعة انتقال الصورة، تزيد عن سرعة انتقال الصوت، فالصورة تنتقل بسرعة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، أما الصوت، لا ينتقل إلا بسرعة ثلاثمئة وثلاثين متراً في الثانية .
ما دام الإنشاء، أنشأ لكم السمع والأبصار، ما دام الفعل إنشاء، أما ما دام الفعل إبصاراً ، فالصور تراها العين قبل الصوت، وأصدق شاهدٍ على ذلك، هزيم الرعد، ترى البرق، وبعد حينٍ تستمع إلى الرعد، لو رأيت حجاراً من بعيد ينحت حجراً، تراه قد هوى بالمطرقة على الحجر، وبعد حينٍ تسمع صوت وقع المطرقة على الحجر إلا في آيةٍ واحدة, قال تعالى:
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾
[سورة السجدة الآية: 12]
والحمد لله رب العالمين
منقول من موسوعة النابلسي